كيف ساهم العلماء النازيون في نشأة برامج الفضاء العالمية؟
الدكتور «فون براون» (يمين الصورة) مع مجموعة من مجربي الصواريخ في ألمانيا في الثلاثينيات ( مصدر الصورة : NASA/MSFC )
إن كانت تواجهكم مشكلة ما، فليس من الحكمة أن نبحث عن حلٍّ لها منذ البداية والإبحار في جميع الاقتراحات أملًا في إيجاد اقتراح منها يناسب المشكلة. سيكون من الأسرع أخذ النصيحة من الآخرين ممن واجهوا مشكلة مماثلة، فلربما أعطاكم أحد الأصدقاء نصيحة لطريق مختصر أو ساعدكم أحد الجيران بالأدوات المناسبة تمامًا لمشكلتكم، فبذلك توفرون الوقت والمال والجهد.
ولكن يمكن للأمر أن يكون له أبعاد أخرى، فهل ستقبلون النصيحة أو المساعدة من جاركم الذي اعتاد على رمي البيض على واجهة منزلكم أو من الصديق الذي كان يعاملكم بحقارة في الماضي؟ لا يوجد قاعدة لهذا الموقف، فإن كنتم ممن يهتم بكبريائه فمن المحتمل أن ترفضوا، أما إذا كنتم من الأشخاص الدبلوماسيين فمن المحتمل أن تقبلوا النصيحة لقوة عائدها في توفير الوقت والمال والجهد.
وإذا كنتم في مَحَل الرئيس الأمريكي جون. ف. كينيدي في نهاية الحرب العالمية الثانية يعد شعبه بالذهاب إلى القمر قبل نهاية العِقد، فإنكم ملزمون كل الإلزام بأخذ النصيحة والعلم اللذين يوفرهما من ساعد على تطوير الأسلحة التي أبادت مئات الآلاف من شعبك في سنواتٍ معدودة؛ العلماء النازيون!
مشبك العلماء الورقي
لا تتعجبوا كثيرًا من موقف الرئيس كينيدي، فالسباق نحو الفضاء space race الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية ليس بمشكلةٍ هينة لنبدأ البحث عن كيفية تنفيذها من الخطوة الأولى. لن يصلح إعادة اختراع العجلة، ليس عندما يكون منافسك هو الاتحاد السوفيتي على أي حال.
انتهت الحرب العالمية الثانية، سقطت برلين، والغنائم ليست الأرض أو المال هذه المرة، ولكن العقول البشرية. وبسبب النظرة المستقبلية التي يتمتع بها السياسيون الأمريكان أدركوا مدى أهمية العقول البشرية النازية في مساعدتهم إن كانوا يريدون حجز مكان في السباق نحو الفضاء. لذلك خصصت أمريكا عملية خاصة وسرية للغاية لتحصيل العقول النازية سمتها عملية المشبك الورقي operation paperclip وهُرِّبَ ما يُقارب 500 عالم في مختلف المجالات بعد استسلامهم إلى الجانب الأمريكي.
فون بروان: من أعطى الحياة لبرنامج الفضاء الأمريكي
دعونا نوجه تركيزنا الآن على من هُرِّبَ من العلماء في مجالات إطلاق الصواريخ والديناميكا الهوائية الذي قارب عددهم الـ 116 عالمًا، وأشهر هؤلاء وأكثرهم تأثيرًا على البرنامج الفضائي الأمريكي كان العالم فيرنر فون براون.
فون براون ألماني الأصل وحصل على الدكتوراه في الفيزياء من برلين، ألمانيا. اكتشف فون براون ولعه بالفضاء منذ أهدته أمه تلسكوبًا في سن الرابعة عشرة، وكان يحلم بإنشاء صواريخ قادرة على إرسال البشر إلى الفضاء. في 1932 وأثناء رحلته لتحقيق ذلك الحلم، انضم فون براون (الذي كان عضوًا في الحزب النازي وقتها) للجيش الألماني الذي كان مهتمًا بتطوير الصواريخ آنذاك.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية برز نجم براون، حيث كان العقل وراء تطوير الصواريخ الباليستية بعيدة المدى long-range ballistic missile التي سميت بـ V-2.
وفي أواخر 1942 كان أول اختبار للصاروخ v-2 ونجح بالفعل ليصبح أول صاروخ يداعب الفضاء الخارجي على ارتفاع 80 كم. ولكن دعونا لا ننسى، فهدف ألمانيا النازية لم يكن العلم من أجل ذاته! فصاروخ V-2 هو نفسه الذي أُطلق لاحقًا على لندن مسببًا موت ما يقرب من 3000 من المدنيين.
انتهت الحرب وقُتل الكثيرون، ولم ينجح براون في إيصال البشر إلى الفضاء كما تمنى، ولكن القدر أعطى براون وصواريخ الـ v-2 فرصة أخرى ليثبتوا جدارتهم في شيء عدا الشروع في القتل وجرائم الحرب! فعقب انتهاء الحرب استسلم براون وفريقه إلى الجانب الأمريكي بعد تهديدات بالقتل من النازيين إن لم يتخلص من الأوراق والمستندات التي وثَّقَت العلم وراء صناعة الصورايخ.
وعند وصول براون إلى أمريكا أهدى كل علمه للأمريكان والجيش الأمريكي ليساعدهم على بناء المزيد من صواريخ الـ v-2. كما بدأت أمريكا في استخدام براون ليساعدهم في الوصول إلى عقول الشعب الأمريكي ليشرح لهم أهمية السعي نحو الفضاء وإبقاء البرنامج الأمريكي الفضائي على قيد الحياة.
مقطع قصير من إنتاج شركة ديزني يوضح فيه فون براون تفاصيل الذهاب إلى القمر وكيفية التعامل مع المشاكل المحتملة.
في أقل من 3 سنوات من بدء العمل تم إنتاج أول صاروخ باليستي أمريكي وسُمي بـ The Redstone، وفي 1958 تم التعديل على الـ Redstone وسُمي بـ Jupiter C واسُتخدام في إطلاق إكسبلورر 1 Explorer 1، أول قمر اصطناعي أمريكي.
تحقيق الحُلم
عام 1960 تم نقل براون إلى المركز الفضائي الجديد؛ National Aeronautics and Space Administration المعروف بناسا، وأصبح أول من يدير المركز. وفي العام التالي بدأ براون في تحصيل ثمار عمله المضني عندما استُخدِم صاروخ Jupiter C في إرسال أول رائدين فضائيين إلى الفضاء ضمن برنامج Mercury، وهو ما كان يطمح إليه براون منذ بداية رحلته في الجيش النازي.
وتستمر الأخبار الجيدة بالتوالي، ففي عام 1961 وتحت إشراف فون براون، قام فريق من المهندسين في ناسا بتطوير سلسلة الصواريخ Saturn، التي استخدم منها Saturn V ليقوم بإطلاق المهمة الشهيرة Apollo 11 التي هبطت على سطح القمر لأول مرة في التاريخ.
بالطبع، لم يكن براون الوحيد صاحب الفضل في ميلاد برنامج الفضاء الأمريكي، فالإنجاز كان على يد ترسانة كاملة من العلماء، منهم والتر دورنبرجر، كونارد دوننبرج وفيرنر دام وآخرون. لا تتعجب إن كان بعض هؤلاء أعضاء سابقين لجيش الرايخ الثالث أو أصدقاء لهتلر نفسه.
السوفيت على نفس الطريق
سار الاتحاد السوفيتي على نفس خُطى الأمريكان وأَرسلَ فريقًا إلى ألمانيا ليتحرى عن أمر صواريخ الـ v-2. انتهى هذا الفريق بجمع بعض العلماء الألمان والعودة بهم إلى الاتحاد السوفيتي، ولكن على عكس الأمريكان، لم يدع السوفيت للعلماء الألمان التوغل في بلادهم وحصد المناصب العلمية العليا. فبمجرد حصول السوفيت على المعلومات المطلوبة لتطوير الصواريخ تم نفي العلماء الألمان إلى ألمانيا الشرقية.
وبعد انتهاء الحرب بغمضة عين؛ في أوائل الخمسينيات، فاجأ الاتحاد السوفيتي الجميع بتطوير صواريخ عابرة القارات،ولاحقًا (في أواخر الخمسينيات) باستخدامها في إطلاق القمر الاصطناعي Spotnik؛ أول جسم صناعي يدور حول الأرض.
قاد عملية تطوير الصواريخ العالم الروسي الشهير سيرجي كوروليف الذي كان أيضًا على رأس الفريق الذي أُرسِل إلى ألمانيا للتحقيق في أمر صواريخ الـ v-2.
لربما يدرك القارئ أن هذه المعلومات عن البرنامج الفضائي السوفيتي لا تسد الرمق، ولكن للأسف هذا هو كل ما هو معلن للعامة، حيث تُحيط هالة من السرية والغموض حول الاتحاد السوفيتي وعلاقته بالجيش النازي آنذاك.
قد ينزعج البعض أن من أعطى الحياة للبرنامج الفضائي الأمريكي والروسي هم علماء نازيون سابقون، منهم من شجع هتلر وآمن بالنظام النازي وساعد على قتل آلاف المدنيين الأبرياء. آخرون لا يهتمون بماضي العلماء وما اقترفوه بالأمس، إنما يهتمون بما يمكن أن ينتجه هؤلاء العلماء الآن وكيف يمكن أن نستغل عقولهم لما هو أصلح.
أيًّا كان ما تظنون، فالواقع قد تحدث! وشئنا أم أبينا، فقد ساهمت النازية واختياراتها في بعض الأوقات في وجود البرنامج الفضائي وتسارعه، هل تعرفتم أصدقائي على تأثير الفراشة؟